جدة: 6 نوفمبر 2025م

الإبادة الجماعية المنسية التي لا تزال تطارد كشمير
نعمان علي*

قبل ثمانية وسبعين عامًا في مثل هذا الأسبوع، غطت الدماء تلال جامو.
في خريف عام 1947، وبينما كانت شبه القارة الهندية تُقسّم إلى الهند وباكستان، كانت مأساة مروعة تتكشف في وادي جامو الخلاب، حيث ذُبح عشرات الآلاف من المسلمين على مدى أسابيع قليلة.
لم تكن عمليات القتل، التي نفذتها ميليشيات هندوسية وسيخية بتواطؤ من قوات مهراجا دوغرا الهندوسي حاكم كشمير آنذاك، مجرد أعمال شغب عفوية ناجمة عن فوضى التقسيم. بل كانت عمليات منظمة ومتعمدة، وهدفت إلى تطهير المنطقة من سكانها المسلمين. فقد تعرضت قوافل العائلات التي كانت تحاول العبور إلى باكستان بحثًا عن الأمان لكمائن وحشية، وتم إحراق القرى وتدميرها عن بكرة ابيها.
تشير التقديرات الأرشيفية إلى خسائر مروعة، حيث تزعم إحدى الدراسات التي حللت سجلات حقبة المهراجا أن حوالي 237 ألف مسلم “أُبيدوا بشكل ممنهج” على يد قوات دوغرا ومساعديهم من الهندوس والسيخ. وبحلول الوقت الذي هدأت فيه أعمال العنف، كان ما يقرب من نصف مليون مسلم قد فروا من ديارهم. لقد كان تحولاً ديموغرافياً أعاد تشكيل هوية جامو إلى الأبد. فقد تحول المسلمون، الذين كانوا يشكلون 61% من إجمالي السكان، إلى أقلية.
وصف المؤرخون الذين أرّخوا هذه الأحداث – بمن فيهم المحرر الكشميري الراحل فيد بهاسين – ما حدث على حقيقته: إبادة جماعية برعاية الدولة. وقد أعرب المهاتما غاندي نفسه عن أسفه لمقتل المسلمين في جامو على يد الهندوس والسيخ من جامو، وأولئك الذين وفدوا إليها من الخارج. ويوضح أحد الباحثين الكشميريين أن الهدف من هذه الإبادة الجماعية كان واضحًا: “إذا خسرت الهند ولاية كشمير، فعلى الأقل يجب أن تحصل على جامو” من خلال ضمان أغلبية هندوسية فيها.
تُعرّف اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 الإبادة الجماعية بأنها أفعال “تُرتكب بقصد تدمير جماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية، كلياً أو جزئياً”. في هذه الحالة، استُهدفت جماعة دينية (المسلمون) بالإبادة. فقد أُطلقت النار على الضحايا جماعياً، ودُمرت القرى، بل وتعرضت النساء للاغتصاب والخطف المنهجي. ومع ذلك، لم تُحقق الحكومات الهندية المتعاقبة بعد الاستقلال في هذه المذابح. لم تُشكل أي لجنة لتقصي الحقائق، ولم تُقم أي نُصب تذكارية، ولا حتى اعتراف رسمي. اختفت هذه المجزرة من الكتب المدرسية والوعي الوطني، ودُفنت تحت أسطورة “اللقاء مع القدر”.
تدخلت الأمم المتحدة في ذلك الوقت: ففي عام 1948، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 47، الذي دعا إلى انسحاب القوات وإجراء استفتاء لتقرير مصير جامو وكشمير. لكن الهند تجاهلت وعد إجراء التصويت، وبدلاً من ذلك عززت سيطرتها على جامو – جزئياً من خلال مكافأة أولئك الذين ساهموا في تأجيج “الصراع الطائفي” في الإقليم.

ظلٌّ لا يزول
بالنسبة للكشميريين، لم تكن الإبادة الجماعية في جامو مجرد فظاعة معزولة، بل كانت الفصل الأول من قصة امتدت لعقود من الخوف والتهميش والاحتلال.
اليوم، لا تزال جامو وكشمير المحتلة بشكل غير قانوني من قبل الهند (IIOJK) واحدة من أكثر المناطق عسكرةً على وجه الأرض، ويعيش سكانها تحت المراقبة والحصار. وقد عززت أحداث أغسطس 2019 – عندما ألغت الهند الوضع الدستوري الخاص لجامو وكشمير بموجب المادة 370 – هذا الشعور بالتكرار التاريخي.
منذ ذلك الحين، احتُجز صحفيون دون محاكمة، وتم إسكات قادة سياسيين، وسُجن آلاف الشباب بموجب قوانين شاملة لمكافحة الإرهاب. كما أعيدت صياغة سياسات الأراضي والإقامة للسماح لغير الكشميريين بالاستيطان، مما أعاد إحياء المخاوف من التغيير الديموغرافي.
إن ما بدأ عام ١٩٤٧ كحملة لطرد شعب ما، يتواصل اليوم بلغة القانون والبيروقراطية، في شكل أكثر هدوءًا وتعقيدًا من أشكال الهيمنة.

تطبيع الكراهية
لا يحدث هذا القمع المستمر بمعزل عن سياقه. فهو يتغذى على صعود الهندوتفا، وهي الأيديولوجية التي تتصور الهند كأمة هندوسية خالصة، وهو ما لم تكن عليه الهند تاريخياً قط.
كانت المنظمة الأم للحركة، وهي منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ (RSS)، نشطة في جامو خلال عمليات القتل التي وقعت عام ١٩٤٧. واليوم، يهيمن جناحها السياسي، حزب بهاراتيا جاناتا (BJP)، على السياسة والخطاب العام في الهند.
أصبح التعصب ضد المسلمين أمراً طبيعياً في التيار السائد في الهند. يزدهر خطاب الكراهية على شاشات التلفزيون؛ وتُمارس عمليات الإعدام خارج نطاق القانون ضد المسلمين دون عقاب؛ وتستهدف “عدالة الجرافات” الأحياء المسلمة. وقد شبّه مسؤولون هنود بارزون المسلمين علناً بـ”النمل الأبيض” وهددوا بإلقائهم في البحر. وتُظهر الأبحاث أن خطاب الكراهية ضد مسلمي الهند قد تصاعد بشكل كبير، حيث تضاعف ثلاث مرات تقريباً خلال صراع غزة عام 2023، ويتركز في الولايات التي يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا.
لقد تسللت أجندة الهيمنة الهندوسية – أيديولوجية الهندوتفا – إلى أروقة السلطة والحياة العامة في الهند. فبينما كان التحريض على الكراهية ضد أقلية دينية يثير الاستياء في الماضي، أصبح يُنظر إليه اليوم في كثير من الأحيان على أنه جزء طبيعي من السياسة. في ظل هذه الأجواء، لا تُعدّ قصة جامو عام ١٩٤٧ مجرد حاشية منسية، بل هي تحذير لم يُؤخذ به على محمل الجد.
إن الأيديولوجية التي بررت في السابق طرد المسلمين من جامو تغذي الآن نزعة قومية تساوي بين المعارضة والخيانة وتمحو مجتمعات بأكملها من الخارطة الأخلاقية.

الذاكرة الانتقائية للعالم
للأسف، لقد تطور لدى العالم تسلسل هرمي للحزن. نتذكر بعض المآسي ونتناسى غيرها عن قصد. نتذكر ضحايا أحداث 11 سبتمبر – كما ينبغي لنا – لكننا نادرًا ما نتحدث عن مئات الآلاف الذين ذُبحوا في جامو أو الملايين الذين ما زالوا يعيشون تحت الحكم العسكري في جامو وكشمير المحتلة بشكل غير قانوني من قبل الهند(IIOJK) .
وفقًا للقانون الدولي، تُعرّف الإبادة الجماعية بأنها نية تدمير جماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية، كليًا أو جزئيًا. وبناءً على هذا المعيار، فإن ما حدث في جامو يُعدّ إبادة جماعية. كما أن القمع المستمر للكشميريين – من خلال المراقبة الجماعية والتلاعب الديموغرافي والعقاب الجماعي – يحمل نفس الوصمة الأخلاقية والقانونية.
هذه ليست حجة ضد سيادة الهند، بل هي مناشدة لإنسانيتها. فبالنسبة لدولة تسعى إلى الاعتراف بها عالمياً كقوة حديثة، يُعدّ رفض الهند مواجهة أشباح جامو – ومعاناة الكشميريين اليوم – فشلاً أخلاقياً ذا أبعاد تاريخية.

التذكر كمقاومة
في السادس من نوفمبر من كل عام، يُحيي الكشميريون ذكرى يوم شهداء جامو في صمتٍ ينمّ عن تحدٍّ للصمت المفروض عليهم. إنهم لا يسعون للانتقام، بل يسعون إلى إحياء الذكرى. إنهم ينعون الموتى، وينعون الأحياء أيضًا، أولئك الذين ما زالوا ينتظرون العدالة.
إن الاعتراف بمعاناتهم لا يعني الانحياز إلى أي طرف في صراع دام قرنًا من الزمان؛ بل يعني التمسك بالقيم الإنسانية العالمية. لا يزال الكشميريون يحيون ذكرى السابع والعشرين من أكتوبر من كل عام حدادًا على ذويهم، أملًا في ألا تتكرر مثل هذه الفظائع. لا ينبغي محو ذكرى أحداث جامو عام ١٩٤٧، كما لا ينبغي السماح بانتهاك الحقوق اليوم بصمت ودون محاسبة. في عصر يشهد عودة القوميات المتطرفة، لا يؤدي التجاهل للمعاناة الجماعية إلا إلى زرع بذور مأساة أخرى.
إذا كان العالم قادرًا على الحزن على آلاف الضحايا الذين سقطوا في نيويورك في أحداث 11 سبتمبر، فلا بدّ أن يتحلى أيضًا بالشجاعة الأخلاقية لتذكّر مئات الآلاف الذين لقوا حتفهم في جامو، والأجيال التي لا تزال تعيش تحت وطأة تلك الجراح التي لم تندمل بعد.
فقط عندما نتذكر الحقيقة كاملةً، يمكن للعالم أن يبدأ أخيرًا في التعافي.

*الكاتب متخصص في مجال الإعلام والاتصالات، ويمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني nohmanali@gmail.com
***

Related Press release

أبرز ما جاء في الأدب الباكستاني باللغة الأردية والحدث الثقافي والأُمسية الشعرية التي أقيمت برعاية القنصلية الباكستانية بالقاعة الكبرى في مدرسة الباكستانية الدولية، حي الرحاب بجدة

أبرز ما جاء في الأدب الباكستاني باللغة الأردية والحدث الثقافي والأُمسية الشعرية التي أقيمت برعاية القنصلية الباكستانية بالقاعة الكبرى في مدرسة الباكستانية الدولية، حي الرحاب بجدة

الإبادة الجماعية المنسية التي لا تزال تطارد كشمير

جدة: 6 نوفمبر 2025م الإبادة الجماعية المنسية التي لا تزال تطارد كشمير نعمان علي* قبل ثمانية وسبعين عامًا في مثل هذا الأسبوع، غطت الدماء تلال جامو. في خريف عام 1947، وبينما كانت شبه القارة الهندية تُقسّم إلى الهند وباكستان، كانت مأساة مروعة تتكشف في وادي جامو الخلاب، حيث ذُبح عشرات الآلاف من المسلمين على مدى […]

إحياءً ذكرى “يوم كشمير الأسود” في جدة: الجالية الباكستانية تتضامن مع أهالي كشمير

البيان الصحافي جدة: 27أكتوبر 2025م إحياءً ذكرى “يوم كشمير الأسود” في جدة: الجالية الباكستانية تتضامن مع أهالي كشمير نظمت القنصلية العامة الباكستانية في جدة تجمعاً للجالية الباكستانية لإحياء ذكرى يوم27 أكتوبر باعتباره يوم كشمير الأسود، وذلك في مقر البيت الباكستاني في جدة. وحضر الفعالية عدد من الشخصيات البارزة من الجالية الباكستانية والكشميرية. بدأ الحفل بتلاوة […]